أخبار العالم

هل سلّمَ ترامب مفاتيح دمشق لأردوغان

في قوله مخاطبا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “تهانيّ، فعلت ما لم يستطع أحد فعله خلال ألفي عام.. لقد سيطرت على سوريا”، يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد اتخذ قرارا غير معلن بتسليم مفاتيح سوريا إلى تركيا.

الرئيس الأميركي الذي تساءل علنا أمام الكاميرات “كيف تخلت إسرائيل عن غزة؟” يريد أن يحقق في شرق المتوسط ما حققه الرجل الأبيض في الغرب المتوحش، واختار أردوغان، الذي وجد فيه الشريك المناسب، للقيام بالمهمة.

فجأة، اكتشف ترامب أن أميركا معزولة عن العالم، وأن تطور وسائل النقل السريعة لم يقرب القارة من “سُرّة العالم”.

كل الدول التي سادت يوما كان لديها هذا الطموح للتوسع خارج حدودها؛ بدءا بالفرس الذين امتد نفوذهم من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السند، وصولا إلى الإمبراطورية البريطانية التي غطت ربع مساحة الأرض، وضمّت ربع سكان العالم.

الثروة والقوة، عندما يجتمعان لشعب واحد، أول ما يتم التفكير به هو التوسع؛ هذا ما فعلته البرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا.. وروسيا. ولم تفعله الولايات المتحدة. أو فعلته، لكن بشكل خاطئ.

اختارت الولايات المتحدة نوعا آخر من التوسع يُشار إليه بـ”الاستعمار الجديد”، حيث يتم استخدام الاقتصاد بدلا من القوة العسكرية للسيطرة.

خلال القرن العشرين، تدخلت الولايات المتحدة في العديد من الدول، متذرعة بدعم الحكومات أو دعم حركات تخدم مصالحها. يرى البعض أن هذه السياسات ساهمت في نشر الديمقراطية والتقدم الاقتصادي، بينما يعتبرها آخرون شكلا من أشكال استعمار حديث استخدم موارد هذه الدول بعد إثارة النزاعات العرقية والدينية والأيديولوجية فيها.

حسابات ترامب اختلفت عن سابقيه من الرؤساء الأميركيين، فهو يرى، مع مجموعة من مستشاريه، أن الولايات المتحدة خرجت في النهاية خاسرة، وأن الوقت قد حان لوقف النزيف الذي تعرضت له على مدى عقود، وأن لا شيء سيُقدَّم مجانا بعد اليوم.

مع بداية فترة حكمه الثانية، كانت الولايات المتحدة متورطة بنزاعات في مناطق مختلفة بالعالم.. والآن تشن حملة ضد الحوثي في اليمن من أجل حماية حرية الملاحة الدولية.

فما هي الكلفة لمثل هذا التدخل والتواجد سنويا؟

في عام 2023، بلغ الإنفاق العسكري الأميركي حوالي 858 مليار دولار، وهو الأكبر عالميا. جزء كبير من هذه الميزانية خُصص للتواجد العسكري الخارجي، المنتشر في 800 قاعدة في أكثر من 70 دولة.

العمليات في مناطق مثل الشرق الأوسط (العراق وسوريا وأفغانستان سابقا) تُكلف المليارات من الدولارات سنويا. الحرب في أفغانستان وحدها كلفت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار على مدار 20 عاما.

الإنفاق على حماية الحلفاء في أوروبا (مثل دول الناتو) وآسيا (مثل كوريا الجنوبية واليابان) يستنزف المليارات من الدولارات سنويا.

ترامب كان دائما صريحا بشأن التكلفة العالية للتدخلات العسكرية والتواجد الأمني الأميركي حول العالم، واصفا ذلك بـ”الاستنزاف المالي”، مكررا أن الولايات المتحدة تتحمل عبئا غير عادل في الدفاع عن الدول الأخرى، مطالبا الدول الحليفة بزيادة مساهماتها المالية لتغطية تكاليف الحماية العسكرية، مشيرا إلى أن أميركا لا يمكنها الاستمرار في دفع هذه الفواتير وحدها.

الآن حان الوقت ليدفع الجميع الثمن، سواء في بحر الصين أو البحر الأحمر أو أوكرانيا ودول البلطيق، أو في أميركا اللاتينية أو أفريقيا، وحتى الحلفاء في دول الخليج وأوروبا.

الأحداث في شرق المتوسط لفتت انتباه ترامب وأثارت اهتمامه بالمنطقة، خاصة الموقع الإستراتيجي؛ سوريا “التي استعصت على العالم” يجب أن تفتح أبوابها الآن.

ولكن، لماذا يسلم ترامب المفاتيح إلى أردوغان؟

ترامب الذي يدرك أن شعوب المنطقة لن تفتح أبوابها له، فهو حفيد الصليبيين (جده هاجر من ألمانيا إلى الولايات المتحدة عام 1885 ووالدته أسكتلندية هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1930) لن يجد أفضل من أردوغان، حفيد العثمانيين، ليوكل إليه بالمهمة.

هذا يفسر ما قاله لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض مؤخرا، إن علاقات جيدة جدا تربطه بأردوغان.

لم يكتف ترامب، الذي عُرف عنه حبه للمفاجآت – وما زال الحديث عن موقفه من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي داخل البيت الأبيض مصدرا للتندر – بالصدمة التي أحدثها على ضيفه بل تابع “أعلم أن الصحافة غاضبة مني لهذا السبب، لكنني أحبه (أردوغان)، وهو يحبني أيضا، وليست هناك أي مشاكل بيننا.”

وبدا كأن ترامب يستمتع بتعذيب نتنياهو بوصفه أردوغان بالرجل القوي والذكي للغاية، وأنه نجح في فعل شيء لا يمكن لأحد أن يفعله (في سوريا)، وأن الواجب يقتضي الإقرار بذلك.

في النهاية، لم يبخل ترامب على نتنياهو بعبارات طمأنة، قائلا له بثقة لا تخلو من سخرية “أعتقد أن بإمكاني حل كل مشاكلك مع تركيا. طالما أصبحت معقولا، يجب أن تكون أنت ونحن معقولين في هذا الشأن.”

تلميحات ترامب ليست وحدها التي ستجبر حكومة تل أبيب على إعادة النظر في مواقفها. فالنفوذ التركي المتزايد في المنطقة وإعادة تشكيل موازين القوى، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية المستمرة، حيث نجحت أنقرة في لعب دور محوري في قضايا مثل سوريا، شرق المتوسط، والعلاقات مع القوى الكبرى كروسيا والولايات المتحدة، هو ما يجب التفكير به.

تركيا، مفتاح الحل للشرق الأوسط، وإذا ما استمرت في توسيع نفوذها، قد تصبح قوة إقليمية أكثر تأثيرا. وهو ما قد يدفع الدول الأخرى إلى إعادة تقييم استراتيجياتها.

رهان الغرب على إسرائيل للسيطرة على منطقة، تعتبر الأهم عالميا، أثبت فشله، ولم يثمر سوى المزيد من مشاعر العداء والكراهية، رغم معاهدات منفردة أجرتها حكومة تل أبيب مع جيران لها. هذا ما أدركه ترامب، ويبدو الآن مهيئا أكثر من أي وقت مضى للرهان على تركيا التي تحظى بقبول الجميع.

النفوذ التركي المتزايد يمكن أن يحقق كلا الاحتمالين، الاستقرار أو التوترات، بحسب الطريقة التي تُدار بها العلاقات الإقليمية والدولية.

تركيا، كونها لاعبا إقليميا قويا، تمتلك القدرة على تغيير التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة، شرط اعتماد سياسات تعاونية مع الأطراف الأخرى، خاصة القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وإثبات أنها تسعى لتحقيق السلام في منطقة حساسة مثل شرق المتوسط وسوريا، وتُساهم في تخفيف التوترات الإقليمية.

واشنطن تُدرك أهمية تركيا كحليف في الناتو وشريك إستراتيجي، خاصة في قضايا مثل الأمن الإقليمي ومحاربة الإرهاب. وروسيا تُرحب جزئيا بتعزيز النفوذ التركي إذا كان يخدم مصالحها، لكنها تبقى حذرة، خاصة في سوريا، حيث تتقاطع المصالح، وقد ترغب في استغلال علاقتها مع أنقرة لتحقيق مكاسب إستراتيجية.

وبينما ينتقد الاتحاد الأوروبي بعض السياسات التركية، خاصة في ما يتعلق بشرق المتوسط، يعتمد على التعاون مع تركيا في قضايا مثل ملف اللاجئين والتجارة.

هناك الكثير مما يجب على نتنياهو وحكومته التفكير به بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى واشنطن، وما رآه من عزم ترامب السيطرة على المنطقة التي وصفها الأهم بالعالم، عن طريق السلام لا عن طريق الحرب. وهو ما فشلت إسرائيل في تحقيقه مع جيرانها منذ عام 1948 وحتى اليوم، رغم كل الدعم الذي قدمه لها الغرب وقدمته لها الولايات المتحدة.

علي قاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى