المشكلة أكبر من ضبط العلاقة بين مصر وصندوق النقد

بعثت القيادة المصرية برسالة واضحة قبل أيام للمسؤولين في صندوق النقد الدولي، أشارت فيها إلى عدم قدرتها على الوفاء بتعهداتها السابقة معه، في ظل تنامي التوترات الإقليمية والدولية التي أثّرت سلبا على الاقتصاد.
وبدت ردود الصندوق غير مرحبة باقتراح القاهرة بإعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، وبموجبها جرى تبني برنامج قاس اجتماعيا للإصلاحات الاقتصادية في مصر، مقابل الحصول على قروض سخية، آخرها قرض بقيمة ثمانية مليار دولار تمت الموافقة عليه في مارس الماضي، لا تزال دفعاته خاضعة لتقييم خبراء الصندوق.
ووصلت الرسالة التي وجهها شخصيا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لمن يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، حيث أراد طمأنة مواطنيه بأنه لن يستجيب إلى كل مطالب صندوق النقد في هذه الظروف الصعبة، وعازم على حث الحكومة على عدم التمادي في تطبيق إجراءاتها الاقتصادية المتفق عليها مع الصندوق، ويراعي الأبعاد الاجتماعية وما يمكن أن تحدثه من قلق لدى شريحة كبيرة من المواطنين، انطلاقا من مسؤوليته السياسية، وبالتالي يدحض ما تم الترويج له من قبل قوى معارضة حول قيام القاهرة بوضع رقبتها تحت سيف سياسات صندوق النقد المضنية.
كما أراد الرئيس السيسي توصيل صوت بلاده إلى قوى إقليمية – خليجية صديقة لحاجته إلى المزيد من المساعدات، بعد استشعار القاهرة أن هذه القوى قدمت ما استطاعت الفترة الماضية وغير مستعدة لتقديم المزيد من المساعدات، ولذلك كان مضمون الرسالة بشأن تأثير الصراعات والتوترات في المنطقة على مصر موجها إلى جهات دولية، مطلوب منها أن تقدم معونات عاجلة، وتتدخل لدى صندوق النقد لتخفيف شروطه، وإجراء مراجعة لما تم الاتفاق عليه سابقا، بسبب حدوث تغيرات في المعطيات التي تمت على أساسها التفاهمات بين القاهرة وصندوق النقد منذ سنوات، ولم تكن التهديدات الراهنة في قطاع غزة والسودان ولبنان وجنوب البحر الأحمر قد ظهرت معالمها، وكان الاقتصاد المصري يمضي قبلها بوتيرة جيدة.
وقد تجد الحكومة المصرية أملا في تغيير المعادلة المتفق عليها مع صندوق النقد، على ضوء ما قالته كريستالينا غورغيفا مديرة صندوق النقد من تصريحات تشي بالتفاؤل، الخميس، حول عزمها السفر إلى القاهرة في غضون عشرة أيام للاطلاع عن كثب على الوضع الاقتصادي والتأكيد على الحاجة إلى التمسك بتنفيذ الإصلاحات، لافتة إلى أن الاقتصاد المصري يواجه تحديات بسبب الصراعات الإقليمية، وأن قناة السويس خسرت نحو 70 في المئة من مواردها مؤخرا.
وينسجم هذا التوجه مع رؤية القاهرة التي تعتقد أن خسارتها المادية من تعثر الملاحة في القناة تقارب قيمة القرض الأخير الذي اتفقت عليه مع الصندوق (ثمانية مليارات دولار)، وكأن هذا القرض لم يضف لاقتصادها شيئا، ما يستلزم مراجعة كي تستطيع مصر الوفاء بتعهداتها، ولا تضطر حكوماتها إلى اتخاذ إجراءات ترهق المواطنين.
لكن ليس بالضرورة أن تكون تصريحات كريستالينا تحمل معنى إيجابيا كاملا، فقد أشارت إلى عزمها الاطلاع والتدقيق أولا، ثم تقرر ومعها طاقم من الخبراء بالطبع مصير الطلب المصري، ويتوقف على قدرة الحكومة على تقديم ما يعزز رؤيتها حول الخسائر التي تكبدتها جراء التطورات الإقليمية والدولية، ومصداقيتها في توفير ما يثبت ذلك من معلومات موثقة، ناهيك عن تأكيد عدم حيادها عن روشتة الصندوق الرئيسية، وهذه المسألة نجحت القاهرة في شق منها، والذي يتعلق بتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، ورفع الدعم عن الكثير من السلع بنسب مرتفعة.
غير أنها لم تتخذ خطوات جادة بخصوص التخارج التدريجي لشركات الجيش من الاقتصاد، وتوسيع الفرص كاملة أمام القطاع الخاص لممارسة أنشطته بحرية كبيرة، وهما زاويتان يمكن أن يصر عليهما الصندوق مقابل أن يخفف قبضة تفاهماته ويبدي مرونة مع القاهرة واستجابة لمطلب المراجعة، إذا أراد تعديل بعض الجوانب في الاتفاقات المبرمة، أما إذا عزم على التشدد فقد يتخذ عدم الوفاء بهما ذريعة للنأي عن المرونة، ومنحها تسهيلات تساعدها في تخطي هذه المرحلة المرتبكة.
وربما يكون الخيار الثاني أوفر حظا، بعد انهماك مصر بجدية في مجموعة بريكس التي ظهرت ملامحها في الاجتماع الأخير الذي عقد في روسيا قبل أيام، حيث تعتزم دول المجموعة تقوية اقتصادها، والتفكير في تدشين عملة جديدة خاصة بها، يمكن أن تؤثر على مكانة الدولار الأميركي العالمية، ولأن الولايات المتحدة أكبر دولة متحكمة في مفاصل صندوق النقد فقد لا تسمح له بالتساهل مع مصر وتفهّم أوجاعها الاقتصادية وما حدث لها من تداعيات بسبب التوترات الإقليمية.
وفي هذه الحالة ستواجه القاهرة ورطة مزدوجة، سياسية تجاه التزاماتها مع مجموعة بريكس، واقتصادية نتيجة عدم إبداء الصندوق ليونة تمكنها من إعادة ترتيب أوضاعها، كي لا تضطر إلى رفع مستوى الضغوط عن المواطنين.
ويمكن أن تتجاوز المشكلة العلاقة مع الصندوق، وتصل إلى توازنات القوى الدولية على المسرح العالمي، ومدى قدرة الحكومة المصرية على المواءمة بين علاقاتها النامية مع دول بريكس، وبين علاقتها ذات الجذور العميقة مع الولايات المتحدة، وهي المتضرر أو المستهدف الأول من نجاح تصورات قادة هذه المجموعة.
ويتوقف الخروج من هذه المعادلة/الورطة بأكبر مكاسب أو أقل خسائر على النتيجة التي ستتمخض عنها زيارة وفد الصندوق للقاهرة الأيام المقبلة، وعلى إثرها تتحدد معالم الصورة التي ستكون عليها العلاقة بين الطرفين، وتقف في خلفيتها توازنات دولية غير خافية على المتابعين لها، فواشنطن التي تحتاج للحفاظ على علاقة إستراتيجية قوية مع القاهرة يتملكها شعور أن الأخيرة لا تخفي ميلها ناحية روسيا والصين، وتخشى أن تقسو عليها الآن من خلال سياسات صندوق النقد فتمنحها فرصة نحو تحويل الميل إلى انحياز سافر إلى بريكس.
من هنا، فاللعبة الاقتصادية بين مصر والصندوق تبدو محاطة بحسابات تتخطى ما لحق بالقاهرة من أضرار نتيجة التوترات الإقليمية، وتلويح القاهرة بإعادة النظر في علاقتها بالصندوق اختبار نوايا للطرف الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه دوله في عدم ترك مصر فريسة لسياسات الصندوق القاسية، وما يمكن تقديمه لها من مساعدات غير تقليدية.
دخلت القاهرة هذا المحك وهي متسلحة بورقتين، الأولى أن التداعيات الإقليمية السلبية ليس لها يد فيها، وحافظت على ضبط النفس في التعامل معها ولم تنجرف وراء استفزازات من هنا وهناك للتصعيد، والورقة الثانية، تتعلق بالشوط الكبير الذي قطعته مع دول بريكس، بكل ما ينطوي عليه ذلك من نتائج مستقبلية، حال تمكنت المجموعة من تطوير آلياتها ورسخت أقدامها اقتصاديا، ما يجعل مصر أكثر ثقة في أن تأتي مراجعة الصندوق متسقة مع رؤيتها في مسألة المرونة المنتظرة.